كما ان التراث والقيادة السياسية في مجتمع الإمارات ،أسهم التراث بصور متعددة في تشكيل النظام السياسي، وفي تعزيز دور القيادات السياسية في مجتمع الإمارات قديما وحديثاً، وذلك م خلال الأدوار الهامة التي كانت – وما تزال – تقوم بها المؤسسات التقليدية والعريقة في مجال الحياة السياسية. وتجدر الإشارة هنا إلى بعض المؤسسات السياسية الهامة مثل الشياخة، والمجلس، والشورى التي تضرب جذورها في أعماق التاريخ الاجتماعي والسياسي، ويضاف إلى ذلك ان التنشئة السياسية التي كانت المدرسة الأولى للشيوخ والحكام اعتمدت على التراث بدرجة كبيرة وخرجت أجيالاً من القادة السياسيين الذين اهتدوا بالتراث في حياتهم العامة والخاصة، وفي إدارة شؤون الحكم. ومما يوضح قرب هؤلاء القادة من التراث، وارتباطهم الوثيق به، ودورهم الفاعل في تداوله واستمراريته، أن بعضهم كانوا مبدعين في الشعر النبطي، وبذلك تمكنوا من نشر قيم التراث وفحواه لمن خلفهم من الأهل والأبناء وأثروا فيهم بنفس الصورة التي جعلتهم يتأثرون بمن جاء قبلهم من السلف، ومن الرواد الأوائل الذين اشتهروا في مجال الشعر النبطي الشيخ ذياب بن عيسى حاكم ابوظبي الذي حكم إمارة ابوظبي أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، والشيخ خليفة بن شخبوط آل نهيان والد الشيخ زايد الأول الذي حكم إمارة ابوظبي ما بين عام 1833-1845م،
أي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي. وكذلك الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان والد صاحب السمو رئيس الدولة. أما بالنسبة للفترة الحالية فنجد ان صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة، والفريق أول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي وزير الدفاع، من أميز شعراء النبط وأشهرهم. مما يدل على ان التراث – ممثلا في الشعر النبطي وما يتضمنه من قيم اجتماعية وسياسية ومفاهيم إنسانية – كان وما يزال هاجساً خاصاً، وشأناً عاماً للقيادة السياسية في مجتمع الإمارات لفترة امتدت لأكثر من ثلاثة قرون.
تتعدد الأشكال والأجناس genres التراثية ذات الصلة بالسياسية والحكم، فإنه بجانب الشعر النبطي نجد ان أشجار النسب المتداولة في أوساط مجتمع الإمارات شفاهة وكتابة، تسهم في تعزيز المكانة الاجتماعية والسياسية للأسر الحاكمة، وتؤكد أحقيتهم في الحكم والقيادة السياسية، كما أن السير والأخبار التاريخية التي تتحدث عن مآثر الرواد الأوائل من آباء الحكام وأجدادهم، وإنجازاتهم في المجالات العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، وما يتداوله أبناء قبائلهم، بل أبناء المجتمع بعامة، تمثل سنداً إضافياً لأحقيتهم وأحقية أبنائهم في القيادة، وفضلاً عن هذا وذاك، فإن التراث الاجتماعي الذي يعتمد على النظام القرابي، والذي يدعو إلى احترام الأبوة، والشياخة، والشورى، واحترام الكبير، وطاعة أولي الأمر يعطي دعماً فائقاً للقيادات التقليدية.
يبدو أن الصلة الوثيقة بين التراث والقيادة السياسية أضحت مسألة دائرية ومترابطة، فآباء وأجداد القيادات التقليدية الحالية هم صناع هذا التراث الذي دفع بأبنائهم وأحفادهم إلى مرافئ القيادة وتولي مسؤولية الحكم، وعليه فإن أبناء هذا الرعيل الأول – أي حكام اليوم – هم أحرص الناس على استمرارية هذا التراث والحفاظ عليه وإثراء عناصره، بالإضافة إليه وتفعيل دوره في المجتمع المعاصر. فالعملية إذاً أخذ وعطاء متصلان.
يسعى مجتمع الإمارات المعاصر في دولة الإمارات العربية المتحدة إلى الربط بين الأصالة والمعاصرة، فيواصل القادة السياسيون الحرص على التراث، وتعزيز مكانته في المجتمع الحديث، وتطوير أساليب النهوض به، وهذه الصلة الوثيقة تتجلى في عدة أشكال من أهمها :
أ ) الإسهامات المختلفة الصادرة عن المواهب والقدرات الخاصة لأولئك القادة، والتي تتصل مباشرة بالأعمال المرموقة ذات الصلة بالتراث.
ب) تأثيرهم وتوجيههم الدائم، ورعايتهم الشخصية للأعمال والمشروعات التراثية والحضارية الرائدة داخل الدولة، وعلى امتداد الوطن العربي والعالم الإسلامي.
جـ) إنشاء وتبنّي ورعاية المؤسسات الرسمية العاملة في مجال التراث الإماراتي بخاصة، والتراث الإنساني بعامة، ودعمها مادياً ومعنوياً وسياسياً.
د ) تأثيرهم المباشر في أبنائهم ومعاونيهم ورعاياهم، وحثهم على الاهتمام بمآثر الآباء والأجداد، والالتزام بقيم التراث، وبأعراف وتقاليد المجتمع في سلوكهم الخاص والعام.
يتناول الجزء التالي من هذه الدراسة بعض الإسهامات لثلاث شخصيات تتصدر قمة النظام السياسي في دولة الإمارات العربية المتحدة وهم :
• صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة.
• سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكمن الشارقة.
• الفريق أول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي، وزير الدفاع.
صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة :
صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة شاعر نبطي مرموق له ديوان شعر مطبوع قام بتحقيقه حمد أبوشهاب، وسوف نتناول في هذه الدراسة نماذج من هذا الشعر وعرضاً موجزاً لبعض موضوعاته ومضامينه، ولصاحب السمو مطارحات مشهودة مع عدد من الشعراء بينهم بعض القادة السياسيين والأعوان المقربين لسموه أمثال سمو الشيخ محمد بن راشد وسعادة الدكتور مانع سعيد العتيبة.
وقد كانت لصاحب السمو رئيس الدولة مبادرات شخصية في إنشاء ودعمن وتطوير العديد من المؤسسات العاملة في مجال التراث والمهتمة به، ومنها :
مركز الوثائق والبحوث – لجنة التراث والتاريخ – مركز ابوظبي لطب الأعشاب – مجمع زايد لبحوث الأعشاب والطب التقليدي – مركز الصناعات الريفية واليدوية – دائرة الآثار والسياحة – الهيئة الاتحادية للبيئة – مؤسسة صندوق الزواج – نادي تراث الإمارات – جمعة إحياء التراث الشعبي – مركز زايد للتنسيق والمتابعة.
وهناك العشرات من المؤسسات العاملة في مجال التراث الحضاري والتي أسهم سموه في إنشائها بالدعم والتمويل والرعاية داخل الدولة وخارجها، والى هذه المؤسسات التراثية هيئات، ومنظمات، وجمعيات عاملة في مجال العمل الإنساني، لأن العمل الإنساني لا ينفصل عن التراث الحضاري، وهناك مئات المؤسسات الأخرى. كما أن سموه تكفل بنشر وطباعة العديد من الكتب التراثية، وإقامة المهرجانات والمسابقات، والأنشطة المختلفة على نفقته الخاصة.
مواصلة للسعي الذي بدأه صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في رعاية المؤسسات التراثية، وسيراً على درب الوالد القائد، تولى أنجاله مسؤولية المتابعة المباشرة والاهتمام الرسمي والشخصي بتلك المؤسسات التي قام بإنشائها، فإن سموه الشيخ سلطان بن زايد، نائب رئيس مجلس الوزراء، يتولى رئاسة نادي تراث الإمارات ومركز زايد للتراث والتاريخ، بينما يتولى سمو الشيخ محمد بن زايد، رئيس هيئة الأركان، رئاسة جمعية إحياء التراث الشعبي وقرى التراث التابعة لها وسمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان يتولى مركز الوثائق والبحوث في ديوان الرئاسة.
إن من أهم المآثر التي يُحمد عليها صاحب السمو رئيس الدولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، أنه جعل التراث جزءاً هاماً من خطابه السياسي، بل من البرنامج السياسي، والعمل الرسمي لدولة الإمارات العربية المتحدة.
سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي :
سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي مؤرخ وأكاديمي مرموق له عدة مؤلفات منشورة باللغتين العربية والإنجليزية، وهو كاتب متمكن اهتم بالمسرحيات التاريخية، ومن الرواد المعاصرين للحضارة العربية الإسلامية، ومن أهم رموزها على مستوى القيادة السياسية في الوطن العربي، فقد جعل الثقافة هماً خاصاً، وشأناً عاماً، وهدفاً اجتماعياً وسياسياً، وتنوعت إسهاماته في الشأن الثقافي إبداعاً، وتخطيطاً، وتمويلاً، ورعاية.
اهتمت الأعمال الأكاديمية لسمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي بإعادة كتابة التاريخ، العربي، وخاصة تاريخ منطقة الخليج، ببصيرة علمية، ورؤية عربية إسلامية، وبجهد علمي ومنهجي رصين، وذلك من خلال تصحيح الأخطاء ودحض الافتراءات بأسلوب يعتمد على عرض الحقائق الموثقة وتحليلها، فأصدر سموه ثلاث دراسات هامة :
• اسطورة القرصنة العربية في الخليج العربي.
• رسالة زعماء الصومال إلى الشيخ سلطان بن صقر القاسمي.
• بيان للمؤرخين الأماجد في براءة ابن ماجد.
رد صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي من خلال هذه الكتب على ثلاثة افتراءات لحقت بأهل الخليج، وقياداته السياسية ورموزه التراثية، وتلك الاتهامات في مزاولة القرصنة، والتجار بالرقيق، ومعاونة المستعمرين وإرشادهم.
اعتمدت هذه الإسهامات أساساً على التأهيل الأكاديمي والقدرات العلمية لسمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، ولسموه إنجازات مشهود لها إقليمياً ودولياً جعلت مدينة الشارقة مركزاً حضارياً مرموقاً بفضل ما تقدمه للتراث الحضاري بعامة والتراث الشعبي بخاصة. ولقد شهد العقد الأخير من القرن العشرين إنجازات حضارية هامة في مدينة الشارقة، ومن أبرزها إنشاء المدينة الجامعة على طراز معماري رائع يجسد التراث العمراني الإسلامي، وترميم منطقة المريجة، وإعادة تأهيلها بصورة رائدة تسعى لإيحاء التراث الإماراتي وتفعيل دوره في المجتمع المعاصر، وجعل المباني التاريخية والتراثية التي أعيد بناؤها وترميمها أروقة للمؤسسات التراثية والأنشطة الثقافية، ومن هذه المؤسسات الثقافية والتراثية التي تم إنشاؤها بتوجيه ورعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي :
إدارة التراث، والمتحف الإسلامي، ومتحف التراث، ومتحف الحصن، وسوق العرصة، وبيت الشعر الشعبي، ومتحف التاريخ الطبيعي، ومتحف الفنون. يضاف إلى تلك الإسهامات المتصلة بالتراث بصورة مباشرة، العديد من الإنجازات الحضارية والعلمية التي وجه سموه بإنشائها ورعايتها على امتداد الوطن العربي والعالم الإسلامي، بل خارج الدائرة العربية والإسلامية في الأوساط المهتمة بالشأن العربية والفكر الإسلامي.
الفريق أول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي وزير الدفاع :
نتناول بعض الإسهامات الرئيسية لسمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ذات الصلة المباشرة بموضوع التراث ودروه في الحياة العامة وفي المجالات الأدبية والاقتصادية الاجتماعية، والتي أمكن تحقيقها بفضل الوعي السياسي بأهمية الثقافة الوطنية، ممثلة في الموروث الشعبي. ولعل المصدر الرئيسي لارتباط سمو الشيخ محمد بن راشد بالتراث وحرصه عليه هو عشقه لقيم البداوة وتعلقه بالحياة العربية الأصيلة المتمثلة في الفروسية، والنخوة، والشجاعة، والوفاء، والحرص على التضامن. ولكن ليس حب البداوة والعروبة وحده كافياً للتغني بقيم التراث ومضامينه الوطنية والإنسانية، والخروج بها من دائرة التجربة الشخصية وإكسابها بُعداً قومياً وإنسانياً، لو لم تواكبه نفس الصافية وملكة فنية وأدبية قادرة على التواصل مع الناس، فإن سمو الشيخ محمد بن راشد شاعر نبطي مرموق له إنتاج شعري وفير ومتعدد الأغراض وجد رواجاً في المنطقة الخليجية وعلى امتداد الوطن العربي، ولقد تم تلحين بعض قصائده وتغنى بها المبدعون والمبدعات، الأمر الذي أعطى أشعاره رواجاً وانتشاراً في رحاب أوسع. ولسموه ديوان مطبوع قام بتحقيقه الشاعر حمد بوشهاب، كما له مطارحات شعرية مع صاحب السمو رئيس الدولة وبعض الشخصيات القيادة الأخرى في الدولة، وله بعض المساجلات مع قرائه ومحبي أشعاره، ومحبي لشعر النبطي بوجه عام.
نظم سمو الشيخ محمد بن راشد في الأغراض التقليدية للشعر العربي من غزل، ووصف، ومدح، ولكنه طرق باباً جديداً ونظم في غرض جديد من أغراض الشعر النبطي لم يكن معروفاً في الشعر الخليجي من قبل، وذلك في قصيدته الموسومة (الملحمة) نظم القصيدة الطويلة التي تستخدم أسلوب الشعر السردي الملحمي، والتي تتحدث عن بطولات الماضي وتطلعات المستقبل، ووصف البيئة الطبيعية في الإمارات، مركزاً على ثنائية البر والبحر التي شكلت تراث وتاريخ الإمارات، وبحسه المرهف يسمع الحوار الذي دار بين البر والبحر ويتعاطى معاناة الآباء والأجداد بسبب ما أصابهم من أهوال البحر وقسوة البر، ثم يعرج إلى إطلالة الأمل وانبثاق المجتمع الحديث، حضارة، وتنمية، وازدهاراً وهو يولد من رحم الماضي ويتألق على يد صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة.
اهتم سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بتشجيع نظم الشعر النبطي بصورة فنية وأدبية رصينة تدور موضوعاتها حول القيم الأصيلة لجتمع الإمارات والمعاني الإنسانية النبيلة في المسابقات التراثية، والمنافسة في صياغة الشعر النبطي، وتخصيص الجوائز للفائزين فيها. ولعل الإبداع الفني والتشجيع الأدب والمادي، وإحياء التراث الشعبي صياغة وتداولاً عبر قصيدة اللغز لسموه، لعل كل ذلك يوضح الدور الريادي الذي يقوم به سموه في إتاحة استمرارية التراث، لا سميا بين الأجيال الناشئة، كما ن نصوص قصيدة اللغز، والردود الشعرية التي تلقاها استجابة لما طرحه سموه في تلك المسابقات والمنافسات التراثية تمثل ذخيرة طيبة من الشعر النبطي.
لقد وجدت قصيدة اللغز تجاوباً عظيماً من محبي الشعر النبطي، وفجرت طاقات إبداعية هائلة أسهمت بدورها في إحياء التراث والتفاف الناس حوله، ويعبر حمد بن خليفة بوشهاب عن هذا المعنى في مقدمته لديوان قصيدة اللغز بقوله :
( لم أقف فيما قرأت عبر تاريخ الشعر العربي فصيحه ونبطيه، قديمه وحديثه، جاهلية وإسلاماً على خبر أو رواية عن شاعر مهما كانت منزلته علواً وجه إلى شعراء زمانه قصيدة ما، ضمنها لغزاً أو رمزاً فتلقى عُشار ما تلقاه سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم من الإجابات التي نيفت على الستمائة قصيدة رداً على قصيدة اللغز).
وبنظرة سريعة وفاحصة إلى ديوان قصيدة اللغز، والحل والردود يتضح صدق ما ذهب إليه حمد بن خليفة بوشهاب، فالديوان تضمن في طبعته الأولى أكثر من ثمانمائة صفحة، تمثل ما يقارب الستمائة قصيدة، اشتملت على آلاف الأبيات من الشعر النبطي، وإذا أدركنا ان هذا الكم الهائل من الشعر النبطي من القصائد المنشورة والمنتقاة من مجمل المشاركات الأخرى، نستطيع ان نتصور الدعم الهائل والتشجيع الفائق الذي قدمته تلك المنافسات لإحياء التراث وترويجه.
تمتد جهود سمو الشيخ محمد بن راشد لإحياء التراث فتشمل الاهتمام الرسمي بتطوير ورعاية المعالم التاريخية والتراثية في إمارة دبي، وفي دولة الإمارات، وجعلها منابر للتواصل الحضاري بين الأجيال المختلفة من أبناء الإمارات والمقيمين فيها، وزوارها من أبناء الشعوب الأخرى، وتجد إسهامات سمو الشيخ محمد بن راشد التقدير، على الصعيدين المحلي والإقليمي وعلى النطاق الدولي فإن منظمة اليونسكو منحت سموه ميداليتها الخاصة التي تمنح عادة لزعماء الدول، في أكتوبر 2001م ، وذلك تقديراً لجهوده في حماية الموروث الحضاري لدولة الإمارات العربية المتحدة، وفي ترسيخ مفهوم الثقافة، وقيم الأدب الشعبي وسط أبناء مجتمعه ومنطقته. ومتابعة لهذا الدور الريادي في حفظ التراث وإيحائه وقع سموه الشيخ محمد بن راشد على اتفاقية مع منظمة اليونسكو يتم بموجبها تأسيس مركز إقليمي للتراث في دولة الإمارات يُعنى بتدريب الكوادر المتخصصة في تقنيات المحافظة على التراث وإدارة موارده بطريقة علمية.
لعل من أميز إسهامات سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم توظيف التراث وإعطاؤه معنى حديثاً في ظل المجتمع المتغير، وفي ضوء الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي اشتهرت به مدينة دبي منذ زمن بعيد، والذي تعيشه إمارة دبي حالياً وتسعى إلى تطويره بالاستفادة من السمعة التجارية التي اكتسبتها دبي عبر التاريخ، والعمل على تطوير دبي وجعلها مركزاً تجارياً دولياً، وربط الترويج التجاري وبالتراث والسياحة الثقافية، فكان لسموه دور واضح في إنشاء وتطوير دائرة السياحة والترويج التجاري، وفي الإشراف على تنظيم مهرجان دبي للتسوق الذي أصبح معلماً اقتصادياً وسياحياً وثقافياً هاماً يقصده التجار والعارضون والسياح من كل أقطار المنطقة العربية، ومن أنحاء العالم. ومن أجل تحقيق الجذب السياحي تمت صيانة وترميم العديد من المباني التاريخية والتراثية في إمارة دبي ضمن أعمال بلدية دبي ودائرة الترويج التجاري والسياحي، ومن حسنات هذا الاهتمام إحياء منطقة الشندغة التراثية، وجعلها معلماً تاريخياً وحضارياً هاماً، لدولة الإمارات على النطاق الدولي.
وليس مصادفة ان مقر رئاسة المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في باريس شهد خلا شهر أكتوبر من عام 2001 م ثلاث مناسبات هامة تتصل بالدور الرائد للقيادة السياسية في دولة الإمارات في صون التراث وإحيائه على المستويين الإقليمي والدولي، وهذه المناسبات هي :
• الإعلان عن جائزة صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس الدولة، ولقد شهد حفل الإعلان عن الجائزة سمو الشيخ خالد بن زايد، نجل صاحب السمو رئيس الدولة.
• الإعلان عن جائزة الشارقة للثقافة العربية، والتي يتم تنظيمها تحت رعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة وبتوجيه من سموه.
• تكريم سمو الفريق أول محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي، وزير الدفاع بمنحه جائزة اليونسكو الخاصة تقديراً لجهوده في حماية الموروث الحضاري لدولة الإمارات العربية المتحدة.
ان اختيارنا لتلك الشخصيات السامية، والإشارة لدورها في رعاية التراث محلياً، وإقليمياً، ودولياً، لم يكن عفو الخاطر، ولا اجتهاداً بعيداً عن الواقع الاجتماعي والثقافي في دولة الإمارات، وإنما نتيجة طبيعية ومنطقية لرصد إسهاماتها الملموسة وجهودها المقدرة، والتي شهدت بها (اليونسكو) بوصفها الجهد المعنية بالتراث الحضاري على المستوى الدولي.
لا يقتصر الدور الريادي للقيادة السياسية في الاهتمام بالتراث والانشغال بوسائل نشره، على الشخصيات السامية، فنجد ان سموه الشيخ خالد بن صقر القاسمي، ولي عهد رأس الخيمة يولي التراث عناية خاصة على الصعيد الرسمي والسياسي، وينعكس هذا الاهتمام في إنشاء (هيئة تفعل التراث والتاريخ) في إمارة رأس الخيمة، والعناية بالجمعيات التراثية المختلفة المنتشرة في أرجاء الإمارة، ويمتد هذا الدور فيشمل الوزراء والمستشارين. وتجدر الإشارة إلى الدور الإبداعي والأدبي لسعادة مانع سعيد العتيبة، المستشار لصاحب السمو رئيس الدولة، والمتمثل في دواوينه النبطية بجانب أعماله الأدبية المنشورة باللغة الفصحى،والتي تستلهم التراث الإماراتي الخليجي والعربي الإسلامي.
إن الاهتمام بالتراث أصبح شأناً مجتمعياً، وسلوكاً متوقعاً ومطلوباً في الحياة الخاصة والمناسبات العامة، وعملاً رسمياً، وجهداً دؤوباً في شتى مرافق الدولة، وإن أبناء الإمارات يعيشون تراثهم، ويتفيأون ظلاله ويشكل وجدانهم، ويُثري حياتهم في مجالات :
الأسماء والألقاب، والأزياء الرجالية والنسائية، والأفراد والأتراح، والتخطيط العمراني، والزخارف المعمارية، ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، والتعليم والأنشطة اللاصفية، والمهرجانات والمنافسات الرياضية والفنية، والسلوك العام.
يجد الإماراتي ان التراث يحيط به من كل جانب، فهو في اسمه وأسماء آبائه واسم قبيلته، وهو كذلك في الملابس التي يرتديها، والمنازل التي يسكنها، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية التي يستمع إليها أو يشاهدها، وإذا خرج من منزله يجده في الدوارات التي يمر فها في طريقه، كما يجده في الطراز العمراني الذي يشكل هوية المباني التي يقصدها، وإذا أراد الترفيه عن نفسه يجده في الرياضيات التراثية،وفي أداء الفرق الفنية. بل يجده في سلوكه العام والخاص، في طريقة السلام والكلام وفي طعامه وشرابه.
شكّل التراث أرضية صلبة للاستمرارية والتواصل بين الماضي الحاضر على المستويين الاجتماعي والسياسي، وحقق الاستقرار السياسي والأمن والأمان، كما أسهمت تلك العوامل بدورها في تحقيق النهضة التنموية التي شهدتها دولة الإمارات العربية المتحدة، فلا تنمية في غياب الأمن والاستقرار، ويتضح مدى التأثير المتبادل بين التراث والقيادة السياسية في دولة الإمارات العربية المتحدة من خلال المحاور التالية :
• نشأة جيل الحكام والقادة على هدى التراث، وتمسكهم بقيمه وأعرافه ومعارفه.
• وعي القيادة السياسية بأهمية الاستمرارية والتواصل سياسياً واجتماعياً وثقافياً، فشيوخ الأمس هم حكام اليوم، ومؤسسات اليوم تتحذر من مؤسسات الأمس، كما أن النظام السياسي الحالي لا ينفصل عن الموروث السياسي التقليدي على النظام الاجتماعي والنسق القرابي.
• حرص القيادة السياسية على توجيه الأجيال الناشئة إلى السير في دروب التراث، وتوفير كل ما من شأنه صون وإحياء وتفعيل هذا التراث.
• الاهتمام الفائق بالنهضة التنموية والحداثة، والحرص على ألا تصبح معطيات الماضي وامتدادها في الحاضر ممثلة في قيم التراث، حاجزاً دون الاستفادة من معطيات الحاضر، ممثلة في تقنياته الحديثة، ولعل خير شاهد على نجاح هذه النزعة التوفيقية ان فترة – أكتوبر 2001م – التي شهدت تكريم دولة الإمارات تكريماً دولياً لاهتمامها بالتراث الحضاري، شهدت انطلاقة الحكومة (الالكترونية) في الدولة، واستفاد التراث الإماراتي من الوسائط المتعددة، ونشره في المواقع المختلفة على شبكة (الانترنت) الأمر الذين وفر له فرص الذيوع والانتشار دولياً.
أي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي. وكذلك الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان والد صاحب السمو رئيس الدولة. أما بالنسبة للفترة الحالية فنجد ان صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة، والفريق أول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي وزير الدفاع، من أميز شعراء النبط وأشهرهم. مما يدل على ان التراث – ممثلا في الشعر النبطي وما يتضمنه من قيم اجتماعية وسياسية ومفاهيم إنسانية – كان وما يزال هاجساً خاصاً، وشأناً عاماً للقيادة السياسية في مجتمع الإمارات لفترة امتدت لأكثر من ثلاثة قرون.
تتعدد الأشكال والأجناس genres التراثية ذات الصلة بالسياسية والحكم، فإنه بجانب الشعر النبطي نجد ان أشجار النسب المتداولة في أوساط مجتمع الإمارات شفاهة وكتابة، تسهم في تعزيز المكانة الاجتماعية والسياسية للأسر الحاكمة، وتؤكد أحقيتهم في الحكم والقيادة السياسية، كما أن السير والأخبار التاريخية التي تتحدث عن مآثر الرواد الأوائل من آباء الحكام وأجدادهم، وإنجازاتهم في المجالات العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، وما يتداوله أبناء قبائلهم، بل أبناء المجتمع بعامة، تمثل سنداً إضافياً لأحقيتهم وأحقية أبنائهم في القيادة، وفضلاً عن هذا وذاك، فإن التراث الاجتماعي الذي يعتمد على النظام القرابي، والذي يدعو إلى احترام الأبوة، والشياخة، والشورى، واحترام الكبير، وطاعة أولي الأمر يعطي دعماً فائقاً للقيادات التقليدية.
يبدو أن الصلة الوثيقة بين التراث والقيادة السياسية أضحت مسألة دائرية ومترابطة، فآباء وأجداد القيادات التقليدية الحالية هم صناع هذا التراث الذي دفع بأبنائهم وأحفادهم إلى مرافئ القيادة وتولي مسؤولية الحكم، وعليه فإن أبناء هذا الرعيل الأول – أي حكام اليوم – هم أحرص الناس على استمرارية هذا التراث والحفاظ عليه وإثراء عناصره، بالإضافة إليه وتفعيل دوره في المجتمع المعاصر. فالعملية إذاً أخذ وعطاء متصلان.
يسعى مجتمع الإمارات المعاصر في دولة الإمارات العربية المتحدة إلى الربط بين الأصالة والمعاصرة، فيواصل القادة السياسيون الحرص على التراث، وتعزيز مكانته في المجتمع الحديث، وتطوير أساليب النهوض به، وهذه الصلة الوثيقة تتجلى في عدة أشكال من أهمها :
أ ) الإسهامات المختلفة الصادرة عن المواهب والقدرات الخاصة لأولئك القادة، والتي تتصل مباشرة بالأعمال المرموقة ذات الصلة بالتراث.
ب) تأثيرهم وتوجيههم الدائم، ورعايتهم الشخصية للأعمال والمشروعات التراثية والحضارية الرائدة داخل الدولة، وعلى امتداد الوطن العربي والعالم الإسلامي.
جـ) إنشاء وتبنّي ورعاية المؤسسات الرسمية العاملة في مجال التراث الإماراتي بخاصة، والتراث الإنساني بعامة، ودعمها مادياً ومعنوياً وسياسياً.
د ) تأثيرهم المباشر في أبنائهم ومعاونيهم ورعاياهم، وحثهم على الاهتمام بمآثر الآباء والأجداد، والالتزام بقيم التراث، وبأعراف وتقاليد المجتمع في سلوكهم الخاص والعام.
يتناول الجزء التالي من هذه الدراسة بعض الإسهامات لثلاث شخصيات تتصدر قمة النظام السياسي في دولة الإمارات العربية المتحدة وهم :
• صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة.
• سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكمن الشارقة.
• الفريق أول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي، وزير الدفاع.
صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة :
صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة شاعر نبطي مرموق له ديوان شعر مطبوع قام بتحقيقه حمد أبوشهاب، وسوف نتناول في هذه الدراسة نماذج من هذا الشعر وعرضاً موجزاً لبعض موضوعاته ومضامينه، ولصاحب السمو مطارحات مشهودة مع عدد من الشعراء بينهم بعض القادة السياسيين والأعوان المقربين لسموه أمثال سمو الشيخ محمد بن راشد وسعادة الدكتور مانع سعيد العتيبة.
وقد كانت لصاحب السمو رئيس الدولة مبادرات شخصية في إنشاء ودعمن وتطوير العديد من المؤسسات العاملة في مجال التراث والمهتمة به، ومنها :
مركز الوثائق والبحوث – لجنة التراث والتاريخ – مركز ابوظبي لطب الأعشاب – مجمع زايد لبحوث الأعشاب والطب التقليدي – مركز الصناعات الريفية واليدوية – دائرة الآثار والسياحة – الهيئة الاتحادية للبيئة – مؤسسة صندوق الزواج – نادي تراث الإمارات – جمعة إحياء التراث الشعبي – مركز زايد للتنسيق والمتابعة.
وهناك العشرات من المؤسسات العاملة في مجال التراث الحضاري والتي أسهم سموه في إنشائها بالدعم والتمويل والرعاية داخل الدولة وخارجها، والى هذه المؤسسات التراثية هيئات، ومنظمات، وجمعيات عاملة في مجال العمل الإنساني، لأن العمل الإنساني لا ينفصل عن التراث الحضاري، وهناك مئات المؤسسات الأخرى. كما أن سموه تكفل بنشر وطباعة العديد من الكتب التراثية، وإقامة المهرجانات والمسابقات، والأنشطة المختلفة على نفقته الخاصة.
مواصلة للسعي الذي بدأه صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في رعاية المؤسسات التراثية، وسيراً على درب الوالد القائد، تولى أنجاله مسؤولية المتابعة المباشرة والاهتمام الرسمي والشخصي بتلك المؤسسات التي قام بإنشائها، فإن سموه الشيخ سلطان بن زايد، نائب رئيس مجلس الوزراء، يتولى رئاسة نادي تراث الإمارات ومركز زايد للتراث والتاريخ، بينما يتولى سمو الشيخ محمد بن زايد، رئيس هيئة الأركان، رئاسة جمعية إحياء التراث الشعبي وقرى التراث التابعة لها وسمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان يتولى مركز الوثائق والبحوث في ديوان الرئاسة.
إن من أهم المآثر التي يُحمد عليها صاحب السمو رئيس الدولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، أنه جعل التراث جزءاً هاماً من خطابه السياسي، بل من البرنامج السياسي، والعمل الرسمي لدولة الإمارات العربية المتحدة.
سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي :
سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي مؤرخ وأكاديمي مرموق له عدة مؤلفات منشورة باللغتين العربية والإنجليزية، وهو كاتب متمكن اهتم بالمسرحيات التاريخية، ومن الرواد المعاصرين للحضارة العربية الإسلامية، ومن أهم رموزها على مستوى القيادة السياسية في الوطن العربي، فقد جعل الثقافة هماً خاصاً، وشأناً عاماً، وهدفاً اجتماعياً وسياسياً، وتنوعت إسهاماته في الشأن الثقافي إبداعاً، وتخطيطاً، وتمويلاً، ورعاية.
اهتمت الأعمال الأكاديمية لسمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي بإعادة كتابة التاريخ، العربي، وخاصة تاريخ منطقة الخليج، ببصيرة علمية، ورؤية عربية إسلامية، وبجهد علمي ومنهجي رصين، وذلك من خلال تصحيح الأخطاء ودحض الافتراءات بأسلوب يعتمد على عرض الحقائق الموثقة وتحليلها، فأصدر سموه ثلاث دراسات هامة :
• اسطورة القرصنة العربية في الخليج العربي.
• رسالة زعماء الصومال إلى الشيخ سلطان بن صقر القاسمي.
• بيان للمؤرخين الأماجد في براءة ابن ماجد.
رد صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي من خلال هذه الكتب على ثلاثة افتراءات لحقت بأهل الخليج، وقياداته السياسية ورموزه التراثية، وتلك الاتهامات في مزاولة القرصنة، والتجار بالرقيق، ومعاونة المستعمرين وإرشادهم.
اعتمدت هذه الإسهامات أساساً على التأهيل الأكاديمي والقدرات العلمية لسمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، ولسموه إنجازات مشهود لها إقليمياً ودولياً جعلت مدينة الشارقة مركزاً حضارياً مرموقاً بفضل ما تقدمه للتراث الحضاري بعامة والتراث الشعبي بخاصة. ولقد شهد العقد الأخير من القرن العشرين إنجازات حضارية هامة في مدينة الشارقة، ومن أبرزها إنشاء المدينة الجامعة على طراز معماري رائع يجسد التراث العمراني الإسلامي، وترميم منطقة المريجة، وإعادة تأهيلها بصورة رائدة تسعى لإيحاء التراث الإماراتي وتفعيل دوره في المجتمع المعاصر، وجعل المباني التاريخية والتراثية التي أعيد بناؤها وترميمها أروقة للمؤسسات التراثية والأنشطة الثقافية، ومن هذه المؤسسات الثقافية والتراثية التي تم إنشاؤها بتوجيه ورعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي :
إدارة التراث، والمتحف الإسلامي، ومتحف التراث، ومتحف الحصن، وسوق العرصة، وبيت الشعر الشعبي، ومتحف التاريخ الطبيعي، ومتحف الفنون. يضاف إلى تلك الإسهامات المتصلة بالتراث بصورة مباشرة، العديد من الإنجازات الحضارية والعلمية التي وجه سموه بإنشائها ورعايتها على امتداد الوطن العربي والعالم الإسلامي، بل خارج الدائرة العربية والإسلامية في الأوساط المهتمة بالشأن العربية والفكر الإسلامي.
الفريق أول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي وزير الدفاع :
نتناول بعض الإسهامات الرئيسية لسمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ذات الصلة المباشرة بموضوع التراث ودروه في الحياة العامة وفي المجالات الأدبية والاقتصادية الاجتماعية، والتي أمكن تحقيقها بفضل الوعي السياسي بأهمية الثقافة الوطنية، ممثلة في الموروث الشعبي. ولعل المصدر الرئيسي لارتباط سمو الشيخ محمد بن راشد بالتراث وحرصه عليه هو عشقه لقيم البداوة وتعلقه بالحياة العربية الأصيلة المتمثلة في الفروسية، والنخوة، والشجاعة، والوفاء، والحرص على التضامن. ولكن ليس حب البداوة والعروبة وحده كافياً للتغني بقيم التراث ومضامينه الوطنية والإنسانية، والخروج بها من دائرة التجربة الشخصية وإكسابها بُعداً قومياً وإنسانياً، لو لم تواكبه نفس الصافية وملكة فنية وأدبية قادرة على التواصل مع الناس، فإن سمو الشيخ محمد بن راشد شاعر نبطي مرموق له إنتاج شعري وفير ومتعدد الأغراض وجد رواجاً في المنطقة الخليجية وعلى امتداد الوطن العربي، ولقد تم تلحين بعض قصائده وتغنى بها المبدعون والمبدعات، الأمر الذي أعطى أشعاره رواجاً وانتشاراً في رحاب أوسع. ولسموه ديوان مطبوع قام بتحقيقه الشاعر حمد بوشهاب، كما له مطارحات شعرية مع صاحب السمو رئيس الدولة وبعض الشخصيات القيادة الأخرى في الدولة، وله بعض المساجلات مع قرائه ومحبي أشعاره، ومحبي لشعر النبطي بوجه عام.
نظم سمو الشيخ محمد بن راشد في الأغراض التقليدية للشعر العربي من غزل، ووصف، ومدح، ولكنه طرق باباً جديداً ونظم في غرض جديد من أغراض الشعر النبطي لم يكن معروفاً في الشعر الخليجي من قبل، وذلك في قصيدته الموسومة (الملحمة) نظم القصيدة الطويلة التي تستخدم أسلوب الشعر السردي الملحمي، والتي تتحدث عن بطولات الماضي وتطلعات المستقبل، ووصف البيئة الطبيعية في الإمارات، مركزاً على ثنائية البر والبحر التي شكلت تراث وتاريخ الإمارات، وبحسه المرهف يسمع الحوار الذي دار بين البر والبحر ويتعاطى معاناة الآباء والأجداد بسبب ما أصابهم من أهوال البحر وقسوة البر، ثم يعرج إلى إطلالة الأمل وانبثاق المجتمع الحديث، حضارة، وتنمية، وازدهاراً وهو يولد من رحم الماضي ويتألق على يد صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة.
اهتم سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بتشجيع نظم الشعر النبطي بصورة فنية وأدبية رصينة تدور موضوعاتها حول القيم الأصيلة لجتمع الإمارات والمعاني الإنسانية النبيلة في المسابقات التراثية، والمنافسة في صياغة الشعر النبطي، وتخصيص الجوائز للفائزين فيها. ولعل الإبداع الفني والتشجيع الأدب والمادي، وإحياء التراث الشعبي صياغة وتداولاً عبر قصيدة اللغز لسموه، لعل كل ذلك يوضح الدور الريادي الذي يقوم به سموه في إتاحة استمرارية التراث، لا سميا بين الأجيال الناشئة، كما ن نصوص قصيدة اللغز، والردود الشعرية التي تلقاها استجابة لما طرحه سموه في تلك المسابقات والمنافسات التراثية تمثل ذخيرة طيبة من الشعر النبطي.
لقد وجدت قصيدة اللغز تجاوباً عظيماً من محبي الشعر النبطي، وفجرت طاقات إبداعية هائلة أسهمت بدورها في إحياء التراث والتفاف الناس حوله، ويعبر حمد بن خليفة بوشهاب عن هذا المعنى في مقدمته لديوان قصيدة اللغز بقوله :
( لم أقف فيما قرأت عبر تاريخ الشعر العربي فصيحه ونبطيه، قديمه وحديثه، جاهلية وإسلاماً على خبر أو رواية عن شاعر مهما كانت منزلته علواً وجه إلى شعراء زمانه قصيدة ما، ضمنها لغزاً أو رمزاً فتلقى عُشار ما تلقاه سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم من الإجابات التي نيفت على الستمائة قصيدة رداً على قصيدة اللغز).
وبنظرة سريعة وفاحصة إلى ديوان قصيدة اللغز، والحل والردود يتضح صدق ما ذهب إليه حمد بن خليفة بوشهاب، فالديوان تضمن في طبعته الأولى أكثر من ثمانمائة صفحة، تمثل ما يقارب الستمائة قصيدة، اشتملت على آلاف الأبيات من الشعر النبطي، وإذا أدركنا ان هذا الكم الهائل من الشعر النبطي من القصائد المنشورة والمنتقاة من مجمل المشاركات الأخرى، نستطيع ان نتصور الدعم الهائل والتشجيع الفائق الذي قدمته تلك المنافسات لإحياء التراث وترويجه.
تمتد جهود سمو الشيخ محمد بن راشد لإحياء التراث فتشمل الاهتمام الرسمي بتطوير ورعاية المعالم التاريخية والتراثية في إمارة دبي، وفي دولة الإمارات، وجعلها منابر للتواصل الحضاري بين الأجيال المختلفة من أبناء الإمارات والمقيمين فيها، وزوارها من أبناء الشعوب الأخرى، وتجد إسهامات سمو الشيخ محمد بن راشد التقدير، على الصعيدين المحلي والإقليمي وعلى النطاق الدولي فإن منظمة اليونسكو منحت سموه ميداليتها الخاصة التي تمنح عادة لزعماء الدول، في أكتوبر 2001م ، وذلك تقديراً لجهوده في حماية الموروث الحضاري لدولة الإمارات العربية المتحدة، وفي ترسيخ مفهوم الثقافة، وقيم الأدب الشعبي وسط أبناء مجتمعه ومنطقته. ومتابعة لهذا الدور الريادي في حفظ التراث وإيحائه وقع سموه الشيخ محمد بن راشد على اتفاقية مع منظمة اليونسكو يتم بموجبها تأسيس مركز إقليمي للتراث في دولة الإمارات يُعنى بتدريب الكوادر المتخصصة في تقنيات المحافظة على التراث وإدارة موارده بطريقة علمية.
لعل من أميز إسهامات سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم توظيف التراث وإعطاؤه معنى حديثاً في ظل المجتمع المتغير، وفي ضوء الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي اشتهرت به مدينة دبي منذ زمن بعيد، والذي تعيشه إمارة دبي حالياً وتسعى إلى تطويره بالاستفادة من السمعة التجارية التي اكتسبتها دبي عبر التاريخ، والعمل على تطوير دبي وجعلها مركزاً تجارياً دولياً، وربط الترويج التجاري وبالتراث والسياحة الثقافية، فكان لسموه دور واضح في إنشاء وتطوير دائرة السياحة والترويج التجاري، وفي الإشراف على تنظيم مهرجان دبي للتسوق الذي أصبح معلماً اقتصادياً وسياحياً وثقافياً هاماً يقصده التجار والعارضون والسياح من كل أقطار المنطقة العربية، ومن أنحاء العالم. ومن أجل تحقيق الجذب السياحي تمت صيانة وترميم العديد من المباني التاريخية والتراثية في إمارة دبي ضمن أعمال بلدية دبي ودائرة الترويج التجاري والسياحي، ومن حسنات هذا الاهتمام إحياء منطقة الشندغة التراثية، وجعلها معلماً تاريخياً وحضارياً هاماً، لدولة الإمارات على النطاق الدولي.
وليس مصادفة ان مقر رئاسة المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في باريس شهد خلا شهر أكتوبر من عام 2001 م ثلاث مناسبات هامة تتصل بالدور الرائد للقيادة السياسية في دولة الإمارات في صون التراث وإحيائه على المستويين الإقليمي والدولي، وهذه المناسبات هي :
• الإعلان عن جائزة صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس الدولة، ولقد شهد حفل الإعلان عن الجائزة سمو الشيخ خالد بن زايد، نجل صاحب السمو رئيس الدولة.
• الإعلان عن جائزة الشارقة للثقافة العربية، والتي يتم تنظيمها تحت رعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة وبتوجيه من سموه.
• تكريم سمو الفريق أول محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي، وزير الدفاع بمنحه جائزة اليونسكو الخاصة تقديراً لجهوده في حماية الموروث الحضاري لدولة الإمارات العربية المتحدة.
ان اختيارنا لتلك الشخصيات السامية، والإشارة لدورها في رعاية التراث محلياً، وإقليمياً، ودولياً، لم يكن عفو الخاطر، ولا اجتهاداً بعيداً عن الواقع الاجتماعي والثقافي في دولة الإمارات، وإنما نتيجة طبيعية ومنطقية لرصد إسهاماتها الملموسة وجهودها المقدرة، والتي شهدت بها (اليونسكو) بوصفها الجهد المعنية بالتراث الحضاري على المستوى الدولي.
لا يقتصر الدور الريادي للقيادة السياسية في الاهتمام بالتراث والانشغال بوسائل نشره، على الشخصيات السامية، فنجد ان سموه الشيخ خالد بن صقر القاسمي، ولي عهد رأس الخيمة يولي التراث عناية خاصة على الصعيد الرسمي والسياسي، وينعكس هذا الاهتمام في إنشاء (هيئة تفعل التراث والتاريخ) في إمارة رأس الخيمة، والعناية بالجمعيات التراثية المختلفة المنتشرة في أرجاء الإمارة، ويمتد هذا الدور فيشمل الوزراء والمستشارين. وتجدر الإشارة إلى الدور الإبداعي والأدبي لسعادة مانع سعيد العتيبة، المستشار لصاحب السمو رئيس الدولة، والمتمثل في دواوينه النبطية بجانب أعماله الأدبية المنشورة باللغة الفصحى،والتي تستلهم التراث الإماراتي الخليجي والعربي الإسلامي.
إن الاهتمام بالتراث أصبح شأناً مجتمعياً، وسلوكاً متوقعاً ومطلوباً في الحياة الخاصة والمناسبات العامة، وعملاً رسمياً، وجهداً دؤوباً في شتى مرافق الدولة، وإن أبناء الإمارات يعيشون تراثهم، ويتفيأون ظلاله ويشكل وجدانهم، ويُثري حياتهم في مجالات :
الأسماء والألقاب، والأزياء الرجالية والنسائية، والأفراد والأتراح، والتخطيط العمراني، والزخارف المعمارية، ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، والتعليم والأنشطة اللاصفية، والمهرجانات والمنافسات الرياضية والفنية، والسلوك العام.
يجد الإماراتي ان التراث يحيط به من كل جانب، فهو في اسمه وأسماء آبائه واسم قبيلته، وهو كذلك في الملابس التي يرتديها، والمنازل التي يسكنها، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية التي يستمع إليها أو يشاهدها، وإذا خرج من منزله يجده في الدوارات التي يمر فها في طريقه، كما يجده في الطراز العمراني الذي يشكل هوية المباني التي يقصدها، وإذا أراد الترفيه عن نفسه يجده في الرياضيات التراثية،وفي أداء الفرق الفنية. بل يجده في سلوكه العام والخاص، في طريقة السلام والكلام وفي طعامه وشرابه.
شكّل التراث أرضية صلبة للاستمرارية والتواصل بين الماضي الحاضر على المستويين الاجتماعي والسياسي، وحقق الاستقرار السياسي والأمن والأمان، كما أسهمت تلك العوامل بدورها في تحقيق النهضة التنموية التي شهدتها دولة الإمارات العربية المتحدة، فلا تنمية في غياب الأمن والاستقرار، ويتضح مدى التأثير المتبادل بين التراث والقيادة السياسية في دولة الإمارات العربية المتحدة من خلال المحاور التالية :
• نشأة جيل الحكام والقادة على هدى التراث، وتمسكهم بقيمه وأعرافه ومعارفه.
• وعي القيادة السياسية بأهمية الاستمرارية والتواصل سياسياً واجتماعياً وثقافياً، فشيوخ الأمس هم حكام اليوم، ومؤسسات اليوم تتحذر من مؤسسات الأمس، كما أن النظام السياسي الحالي لا ينفصل عن الموروث السياسي التقليدي على النظام الاجتماعي والنسق القرابي.
• حرص القيادة السياسية على توجيه الأجيال الناشئة إلى السير في دروب التراث، وتوفير كل ما من شأنه صون وإحياء وتفعيل هذا التراث.
• الاهتمام الفائق بالنهضة التنموية والحداثة، والحرص على ألا تصبح معطيات الماضي وامتدادها في الحاضر ممثلة في قيم التراث، حاجزاً دون الاستفادة من معطيات الحاضر، ممثلة في تقنياته الحديثة، ولعل خير شاهد على نجاح هذه النزعة التوفيقية ان فترة – أكتوبر 2001م – التي شهدت تكريم دولة الإمارات تكريماً دولياً لاهتمامها بالتراث الحضاري، شهدت انطلاقة الحكومة (الالكترونية) في الدولة، واستفاد التراث الإماراتي من الوسائط المتعددة، ونشره في المواقع المختلفة على شبكة (الانترنت) الأمر الذين وفر له فرص الذيوع والانتشار دولياً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق